الدونكيشوتية وثقافة الأحذية

بقلم/الياس بجاني*

 

ليس من المستغرب، ولا من غير المألوف التصرف الصبياني والانفعالي والاستعراضي الذي قام به الصحافي العراقي منتظر الزيدي، مراسل قناة البغدادية العراقية حيث قذف رمى حذاءه على الرئيس الأميركي جورج بوش خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده هذا الأخير في بغداد بتاريخ 14/12/08، أثناء الزيارة التي قام بها للعراق.

 

في الواقع المعاش، السلوك غير السوي، وغير المسؤول هذا، نرى ونسمع كثيراً وبشكل يومي، عما يشابهه في كل بلدان العالم دون استثناء، وهو يعتبر وطبقاً لكل المعايير العلمية والاجتماعية والسلوكية شاذ ومرضي وغير مقبول.

 

أما المستهجن والمعيب في آن بما يخص هذه الواقعة، فقد جاء في ردات الفعل الهستيرية، والعبثية، والدونكيشوتية، التي سادت معظم الدول الشرق أوسطية، وفي مقدمها لبنان، ليس على مستوى الشارع فقط، ولكن للأسف على مستوى العديد من المثقفين ورجال الإعلام والسياسيين.

 

لقد جعلت هذه الحالة الهستيرية من الصحافي العراقي المغمور بطلاً قومياً، ومن تصرفه الأهوج انتصاراً مبيناً على الإمبريالية والإستعمار والمستكبرين وقوى الإحتلال، وتطول قائمة المفردات العكاظية التي خُلّعت على تلك الواقعة، والتي رأى فيها هؤلاء الأشاوس أم المعارك.

 

شوارع العاصمة العراقية بغداد، شهدت ولعدة أيام مظاهرات حاشدة منددة باعتقال الزيدي، ومطالبة بالإفراج الفوري عنه. كما انتقل "فيرس" البطولة هذا إلى داخل البرلمان العراقي الذي شهد جدلاً طويلاً حول القضية، حيث طلب النائب عقيل عبد الحسين، زعيم الكتلة الصدرية، من نواب البرلمان الوقوف إلى جانب البطل المعتقل.

 

الأمين العام لإتحاد الصحافيين العرب مكرم محمد أحمد وجه رسالة إلى رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يطالبه فيها بالإفراج عن الزيدي.

 

وفي لبنان قام نقيبا الصحافة والمحررين ومعهما عشرات الصحافيين "المولعين بالنحر والصهر"، بحملة شعواء دعماً لهذا العمل الجبار. في حين أعلن العشرات من النواب والسياسيين اللبنانيين "المقاومجية" حالة الاستنفار القصوى، وأصدروا رزم من البيانات الداعمة لهذا النصر المُبين على الرمز الأول لقوى الاستكبار.

 

محطة "الجديد" التلفزيونية في بيروت عرضت على الزيدي العمل ضمن فريقها. ولما لا فهو فدائي ومحرر ومقاوم وقد انتصر على رئيس أكبر وأقوى دولة في العالم مستعملاً قذائف وصواريخ "الأحذية". كما أن عشرات المواقع على "الفايس بوك" تبنت الحالة البطولية هذه وراحت تسّوق لها.

 

بالطبع حزب الله، وهو فرقة الحرس الثوري الإيراني في لبنان، لم يترك هذه السانحة "المقاومتية" تفوته، وكان لقادته عدد لا يستهان به من التصريحات المؤيدة والمباركة، وبالتأكيد المحذرة للأميركيين من مغبة التعدي على المقاوم المغوار.

 

الصحافي منتظر الزيدي، هذا "القاذف الصاروخي" الشجاع، هو بالواقع خير تلميذ لمعلمه وملهمه وزير الإعلام العراقي الأسبق محمد سعيد الصحاف الذي حارب القوات الأميركية في أواخر أيام حكم الرئيس صدام حسين وردها على أعقابها خائبة ومنكسرة. الصحاف كان وصف الغربيين وتحديداً الأميركيين والإنكليز بالعلوج، وهو الذي قال يومها: "بريطانيا لا تسوى قندرة عتيقة"، و"بوش ورامسفيلد يستحقان الضرب بالقنادر (الأحذية)". من هنا نرى أن الزيدي أكمل المعركة التي كان أطلق شرارتها الأولى الصحاف، وهو نفذ "بقاذفته المبتكرة"، ما أراد معلمه أن يقوم به ولم يفلح يومها.

 

ولكن رغم هيجان وهستيرية ودجل البعض، فقد ذكر خضير طاهر في مقالة له نشرها موقع إيلاف بتاريخ 16/12/08 ما يلي: "بعد الاعتداء الذي حصل على الرئيس جورج بوش حصلت مفاجأة كبيرة لدى الرأي العام العراقي تجسدت في رفض وإدانة هذا الفعل الهمجي الجبان، فقد امتلأت العديد من المواقع الالكترونية العراقية بالمقالات الشاجبة والرافضة لهذه الجريمة، وعبر الكثير من العراقيين في حواراتهم عن نفس مشاعر الرفض والإدانة، باستثناء زمرة من عملاء المخابرات الإيرانية - السورية وأيتام المجرم صدام حسين. وانصب غضب الناس على استغلال هذا النكرة لمساحة الديمقراطية في ممارسة سلوك منحط أخلاقيا وحضاريا، ولو كان في زمن نظام صدام لما تجرأ على رفع عينه على أبسط شرطي عراقي، ولكنه أساء الأدب عندما أمن العقاب، فالناس تنظر إلى من يقدم على مثل هذه الجريمة على انه شخص جبان لم يتجرأ على رفع صوته في زمن الظلم والقمع والدكتاتورية، وحين اطمأن من عدم وجود العقاب قام بفعله المشين.".

 

يبقى أنه من حسنات الديموقراطية التي ينعم بها العراق حالياُ بفضل الأميركيين، وعلى الرغم من كل علاتها وشوائبها، هي أن الزيدي لن يُقْتل، ولن يُعذب، ولن تتم تصفية ذويه عقاباً على فعلته، كما كان سيكون مصيره الحتمي في ظل حكم صدام، وأيضاً في أغلبية الدول العربية، بل هو سيحاكم في العراق الحر وسوف يُطبق عليه القانون بما يتوافق مع فعلته.

 

نسأل هل في لبنان، وطن الرسالة، فعلاً قوم مقاوم يتوهم أنه بالإمكان التحدث مع العالم الحر والتفاهم والتواصل مع شعوبه بلغة وثقافة الأحذية؟ 

 

في النهاية هنيئاً "للمقاومجية" ولتجار التحرير في لبنان انضمام منتظر الزيدي إلى قائمة الإعلاميين "الشرفاء" عندهم، والتي في مقدمة روادها: أحمد سعيد، ومحمد سعيد الصحاف، ووئام وهاب، وناصر قنديل، ووديع الخازن، وكريم بقرادوني، والكثير من قناديل جنرال الرابية الذين لا تزال أسماؤهم في خانة "تحت التدريب".!!

 

*الكاتب معلق سياسي وناشط لبناني اغترابي

*عنوان الكاتب الألكتروني phoenicia@hotmail.com

*تورنتو/كندا في 19 كانون الأول 2008