تأملات إيمانية في سر ومفاهيم الموت

 الياس بجاني

26 تشرين الأول/14

 

"أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا" (إنجيل يوحنا11/25)

 

لا يمكن فهم واقع الموت هذا اللغز والسر الذي حير عقل الإنسان إلا إيمانياً ومن خلال الكتاب المقدس، وذلك بعد أن ألغى السيد المسيح بتأنسه وصلبه وموته وقيامته الموت هذا بمفهومه الإنساني والجسدي والترابي وقهره وكسر شوكته.

الموت ومنذ قيامة السيد المسيح أصبح الخطيئة التي هي موت لا ينتهي في جهنم يُعاقب الله بها الأشرار حيث صرير الأسنان والنار التي لا تنطفئ والدود الذي لا يهدأ والعذاب الذي لا يتوقف.

 

"وَمَتَى لَبِسَ هَذَا الْفَاسِدُ عَدَمَ فَسَادٍ وَلَبِسَ هَذَا الْمَائِتُ عَدَمَ مَوْتٍ فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ: ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ. أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟ أَمَّا شَوْكَةُ الْمَوْتِ فَهِيَ الْخَطِيَّةُ وَقُوَّةُ الْخَطِيَّةِ هِيَ النَّامُوسُ. وَلَكِنْ شُكْراً لِلَّهِ الَّذِي يُعْطِينَا الْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. إِذاً يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ كُونُوا رَاسِخِينَ غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلاً فِي الرَّبِّ. (رسالة كورنثوس الأولى 15/من48حتى52)

 

هذا الموت الجسدي بأسراره عصي على عقل الإنسان المحدود القدرات فهمه وإدراكه منذ أن طرده الله من جنة عدن لعصيانه ولطمعه وسعيه لمعرفة أسرار الخير والشر. هذا ومنذ أن وُجِّد الإنسان على الأرض كان الموت الشغل الشاغل للعديد من الحضارات ولاهتمامات الشعوب في العصور كافة من أمثال الفينيقيين والفراعنة والصينيين والهنود وغيرهم كثر.

 

"بِعَرَقِ جَبينِكَ تأكُلُ خُبزًا حتَّى تَعودَ إِلى الأَرض، فمِنها أُخِذتَ لأَنَّكَ تُرابٌ وإِلى التُّرابِ تعود". (التكوين03/19)

 

الموت الجسدي هذا المصير المحتوم الذي لا مفر منه لأي مخلوق هو في المفهوم المسيحي الإيماني انتقال الإنسان من الموت إلى الحياة وليس العكس. فيا ليت من بيدهم القرار والسلطة والمال من البشر يدركون أنهم راحلون لا محالة من على هذه الأرض الفانية وبأنهم لن يأخذوا معهم من ثرواتها الترابية من سلطة ونفوذ وعزوة وممتلكات وقوة أي شيء.

 

"ثُمّ قالَ لَهم: تَبصَّروا واحذَروا كُلَّ طَمَع، لأَنَّ حَياةَ المَرءِ، وإِنِ اغْتَنى، لا تَأتيه مِن أًموالهِ. ثُمَّ ضَرَبَ لَهم مَثَلاً قال: رَجُلٌ غَنِيٌّ أَخصَبَت أَرضُه، فقالَ في نَفسِه: ماذا أَعمَل؟ فلَيسَ لي ما أَخزُنُ فيه غِلالي. ثُمَّ قال: أَعمَلُ هذا: أَهدِمُ أَهرائي وأَبْني أَكبرَ مِنها، فأَخزُنُ فيها جَميعَ قَمْحي وأَرْزاقي. وأَقولُ لِنَفْسي: يا نَفْسِ، لَكِ أَرزاقٌ وافِرَة تَكفيكِ مَؤُونَةَ سِنينَ كَثيرة، فَاستَريحي وكُلي واشرَبي وتَنَعَّمي. فقالَ لَه الله: يا غَبِيّ، في هذِهِ اللَّيلَةِ تُستَرَدُّ نَفْسُكَ مِنكَ، فلِمَن يكونُ ما أَعدَدتَه؟ فهكذا يَكونُ مصيرُ مَن يَكنِزُ لِنَفْسِهِ ولا يَغتَني عِندَ الله". (لوقا12/من15إلى22).

 

الزوادة الإيمانية أي إيمان وأعمال وأفكار الإنسان ومخافته من ربه في كل ما قال وفعل وفكر هي كل ما بمقدوره حمله معه إلى العالم الآخر عندما يستعيد ويسترد منه الخالق جل جلاله وديعته التي هي نعمة الحياة، فيبرد جسده ويفقد حيويته ويتحول إلى كومه من الجماد لا روح ولا حرارة فيه، وخلال أيام يأكله دوده ويعود إلى التراب الذي جُبّل منه. إن الله أراد بنفسه ومن خلال تأنسه وعذابه وصلبه وقيامته أن يصالح الإنسان الذي كان عصاه في جنه عدن وذلك ليحرره من عبودية الإنسان العتيق ويرفعه إلى مرتبة الإنسان الجديد، إنسان العماد بالماء والروح القدس.

 

"إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح فإننا أشقى جميع الناس. ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الراقدين. فانه إذ الموت بإنسان، بإنسان أيضاً قيامة الأموات لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع" (01كورنثوس15/من19حتى22)

 

في اليوم الأخير، يوم القيامة، يعود السيد المسيح وعندها يكون حساب العقاب والثواب، فيفصل ما بين الأبرار والأشرار. الأبرار إلى يمينه والأشرار إلى يساره وتتم محاكمة ومحاسبة الجميع طبقاً لإيمانهم وأعمالهم وأفكارهم التي حملوها معهم في زوادتهم الإيمانية.

 

"ومتى جاء ابن الإنسان في مجده، ومعه جميع ملائكته يجلس على عرشه المجيد، وتحتشد أمامه جميع الشعوب، فيفرز بعضهم عن بعض، مثلما يفرز الراعي الخراف عن الجداء، فيجعل الخراف عن يمينه والجداء عن شماله). (إنجيل القديس متى:25/من25حتى31)

 

للجميع الذين على يمنه ويساره يقول الرب أنا كنت عطشاناً وجوعاناً ومعذباً وسجيناً ومريضاً ومحتاجاً ومشرداً ومنفياً ومعاقاً ومنبوذاً ومضطهداً، من منكم هم على يميني مد يده وأعانني وقدم لي ما هو بمقدوره وبمتناوله دون شروط أو قيود واستثمر في معونتي وزناته ومواهبه التي أعطيته إياه مجاناً فأعطاني هو أيضاً مجاناً ودون مقابل بمحبة وتواضع وتحسس بمعاناتي وأوجاعي. ومن منكم هم على يساري لم يكترثوا بي ولم يساعدوني واحتقروني وأهانوني وأكملوا طريقهم في الحياة الأرضية تشدهم وتتحكم بهم غرائزهم وأطماعهم. الجميع يسأل بتعجب وحيرة واستغراب متى يا رب ساعدناك أو لم نساعدك؟ فيرد قائلاً أنا ربكم كنت كل شخص من هؤلاء المحتاجين والمعذبين الذين من هم على يميني أسعفهم وتعاطف معهم، ومن على يساري لم يسعفهم وأهملهم وأغمض عينيه عن أوجاعهم وعوزهم.

 

يستهزئ البعض من قليلي الإيمان وخابي الرجاء من يوم الحساب ويشككون به ولا يؤمنون بوجود جهنم متعامين عن كل الآيات المقدسة التي تؤكد هذه الحقائق من خلال مئات الآيات ومنها مثل الغني ولعازر.

 

"وقال يسوع: كان رجل غني يلبس الأرجوان والثياب الفاخرة ويقيم الولائم كل يوم. وكان رجل فقير اسمه لعازر، تغطي جسمه القروح. وكان ينطرح عند باب الرجل الغني، ويشتهي أن يشبع من فضلات مائدته، وكانت الكلاب نفسها تجيء وتلحس قروحه. ومات الفقير فحملته الملائكة إلى جوار إبراهيم. ومات الغني ودفن. ورفع الغني عينيه وهو في الجحيم يقاسي العذاب، فرأى إبراهيم عن بعد ولعازر بجانبه. فنادى: إرحمني، يا أبـي إبراهيم، وأرسل لعازر ليبل طرف إصبعه في الماء ويبرد لساني، لأني أتعذب كثيرا في هذا اللهيب. فقال له إبراهيم: تذكر، يا ابني، أنك نلت نصيبك من الخيرات في حياتك، ونال لعازر نصيبه من البلايا. وها هو الآن يتعزى هنا، وأنت تتعذب هناك. وفوق كل هذا، فبـيننا وبينكم هوة عميقة لا يقدر أحد أن يجتازها من عندنا إليكم ولا من عندكم إلينا. فقال الغني: أرجو منك، إذا، يا أبـي إبراهيم، أن ترسل لعازر إلى بيت أبـي، لينذر إخوتي الخمسة هناك لئلا يصيروا هم أيضا إلى مكان العذاب هذا. فقال له إبراهيم: عندهم موسى والأنبـياء، فليستمعوا إليهم. فأجابه الغني: لا، يا أبـي إبراهيم! ولكن إذا قام واحد من الأموات وذهب إليهم يتوبون. فقال له إبراهيم: إن كانوا لا يستمعون إلى موسى والأنبـياء، فهم لا يقتنعون ولو قام واحد من الأموات". (انجيل القديس لوقا 16/من 19حتى31)

 

ولأن وجود الإنسان على الأرض هو وجود في غربة وموطن غير موطنه فالمؤمن يتحسس باستمرار أوجاعها ويتوق للعودة إلى موطنه وسكنه في السماء كما يعلمنا القديس بولس الرسول.

 

ونحنُ نَعرِفُ أنَّهُ إذا تَهدَّمَتْ خَيمَتُنا الأرضِيَّةُ الّتي نَحنُ فيها، فلَنا في السَّماءِ بَيتٌ أبَدِيٌّ مِنْ بِناءِ اللهِ غيرُ مَصنوعٍ بالأيدي. وكم نَتأوَّهُ حَنينًا إلى أنْ نَلبَسَ فَوقَها بَيتَنا السَّماوِيَّ، لأنَّنا متى لَبِسناهُ لا نكونُ عُراةً. وما دُمنا في هذِهِ الخَيمةِ الأرضِيَّةِ فنَحنُ نَئِنُّ تَحتَ أثقالِنا، لا لأنَّنا نُريدُ أنْ نَتَعرَّى مِنْ جَسدِنا الأرضِيِّ، بَلْ لأنَّنا نُريدُ أنْ نَلبَسَ فَوقَهُ جَسَدَنا السَّماوِيَّ حتّى تَبتَلِعَ الحياةُ ما هوَ زائِلٌ فينا. والله هوَ الّذي أعَدَّنا لِهذا المَصيرِ ومنَحَنا عُربونَ الرُّوحِ. ولذلِكَ لا نَزالُ واثِقينَ كُلَّ الثِّقَةِ، عارِفينَ أنَّنا ما دُمنا مُقيمينَ في هذا الجَسَدِ، فنَحنُ مُغتَرِبونَ عَنِ الرَّبِّ،

لأنَّنا نَهتَدي بإيمانِنا لا بِما نَراهُ.فنَحنُ إذًا واثِقونَ، ونُفَضِّلُ أنْ نَغتَرِبَ عَنْ هذا الجَسَدِ لِنُقيمَ معَ الرَّبِّ. وسواءٌ كُنَّا مُقيمينَ أو مُغتَرِبينَ، فغايتُنا رِضى الرَّبِّ، لأنَّنا لا بُدَّ أنْ نَظهَرَ جميعًا لدى مَحكَمَةِ المَسيحِ لِيَنالَ كُلُّ واحدٍ جَزاءَ ما عَمِلَهُ وهوَ في الجَسَدِ، أخَيرًا كانَ أمْ شَرًّا.

ونَحنُ نُقنِعُ النّاس َ لأنَّنا نَعرِفُ مَخافَةَ الرَّبِّ. أمَّا اللهُ فيَعرِفُنا تَمامَ المَعرِفَةِ، وأرجو أنْ تَعرِفونا أنتُم أيضًا في ضَمائِرِكُم تَمامَ المَعرِفَةِ. ونَحنُ لا نُريدُ أنْ نَعودَ إلى تَعظيمِ شأنِنا، بَلْ نُريدُ أنْ نُعطِيَكُم سبَبًا لِلافتخارِ بِنا، فيكونُ لكُم ما تَرُدُّونَ بِه على الّذينَ يَفتَخِرونَ بِظاهِرِ الإنسانِ لا بِما في قَلبِهِ. فإنْ كُنَّا مَجانينَ فَلِلَّهِ، وإنْ كُنّا عُقلاءَ فلأجلِكُم. ونَحنُ أسرى مَحبَّةِ المَسيحِ، بَعدَما أدرَكْنا أنَّ واحدًا ماتَ مِنْ أجلِ جميعِ النّاس ِ، فجَميعُ النّاس ِ شارَكوهُ في مَوتِهِ. وهوَ ماتَ مِنْ أجلِهِم جميعًا حتّى لا يَحيا الأحياءُ مِنْ بَعدُ لأنفُسِهِم، بَلْ لِلَّذي ماتَ وقامَ مِنْ أجلِهِم.

فنَحنُ لا نَعرِفُ أحدًا بَعدَ اليومِ حسَبَ الجَسَدِ. وإذا كُنَّا عَرَفنا المَسيحَ يومًا حسَبَ الجَسَدِ، فنَحنُ لا نَعرِفُهُ الآنَ هذِهِ المَعرِفَةَ. وإذا كانَ أحَدٌ في المَسيحِ، فهوَ خَليقَةٌ جَديدةٌ: زالَ القَديمُ وها هوَ الجديدُ. وهذا كُلُّهُ مِنَ اللهِ الّذي صالَحَنا بالمَسيحِ وعهِدَ إلَينا خِدمَةَ المُصالَحَةِ،

أي إنَّ اللهَ صالَحَ العالَمَ معَ نَفسِهِ في المَسيحِ وما حاسَبَهُم على زلاَّتِهِم". (رسالة كورنثوس الثانية 05/من01حتى21)

 

في الخلاصة إن الموت هو الخطيئة، وهي التي تودي إلى جهنم ونارها بكل من لا يخاف الله في أفعاله وأقواله وفكره ويبقى بحريته أسيراً للإنسان العتيق الغرائزي. في حين أن المؤمن الذي يرتقي ويرتفع بحريته من اسر الإنسان العتيق إلى رحاب الإنسان الجديد، إنسان العماد بالماء والروح القدس فهو لا يموت، بل يرقد على رجاء القيامة عندما يسترد الله نعمة الحياة منه، وذلك بانتظار رجاء يوم القيامة والحساب الأخير ليعود إلى منازل أبيه في السماء حيث الحياة الأبدية وحيث لا وجع ولا ألم.

 

"اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ، حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللهِ، وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ". (يوحنا05/24و25)

 

الكاتب ناشط لبناني اغترابي

عنوان الكاتب الألكترونيphoenicia@hotmail.com