تأملات انجيلية ووجدانية في خلفية عـيـد ارتفـاع الصـليـب المقدس

اعداد وتنسيق الياس بجاني

14 أيلول/14

 

“من أراد ان يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني”،

من رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس (من 18حتى25)

إنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الهَالِكِينَ حَمَاقَة، أَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ المُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ الله؛ لأَنَّهُ مَكْتُوب: "سَأُبِيدُ حِكْمَةَ الحُكَمَاء، وأَرْذُلُ فَهْمَ الفُهَمَاء فَأَيْنَ الحَكِيم؟ وأَيْنَ عَالِمُ الشَّرِيعَة؟ وأَيْنَ البَاحِثُ في أُمُورِ هذَا الدَّهْر؟ أَمَا جَعَلَ اللهُ حِكْمَةَ هذَا العَالَمِ حَمَاقَة؟ فَبِمَا أَنَّ العَالَمَ بِحِكْمَتِهِ مَا عَرَفَ اللهَ  بِحَسَبِ حِكْمَةِ الله، رَضِيَ اللهُ أَنْ يُخَلِّصَ بِحَمَاقَةِ البِشَارَةِ الَّذِينَ يُؤْمِنُون؛ لأَنَّ اليَهُودَ يَطْلُبُونَ الآيَات، واليُونَانِيِّينَ يَلْتَمِسُونَ الحِكْمَة. أَمَّا نَحْنُ فَنُنَادِي بِمَسِيحٍ مَصْلُوب، هُوَ عِثَارٌ لِليَهُودِ وحَمَاقَةٌ لِلأُمَم. وأَمَّا لِلمَدْعُوِّينَ أَنْفُسِهِم، مِنَ اليَهُودِ واليُونَانِيِّين، فَهُوَ مَسِيحٌ، قُوَّةُ اللهِ وَحِكْمَةُ الله؛ فَمَا يَبْدُو أَنَّهُ حَمَاقَةٌ مِنَ اللهِ هُوَ أَحْكَمُ مِنَ النَّاس، ومَا يَبْدُو أَنَّهُ ضُعْفٌ مِنَ اللهِ هُوَ أَقْوَى مِنَ النَّاس"

 

في كل سنة بتاريخ 13 أيلول تتذكر الكنيسة ظهور الصليب للملك قسطنطين الكبير، في لحربه ضدّ مكسنسيوس. وذلك انه لمّا قَرُبَ من روما استعان بالمسيحيين، واستغاث بإلههم يسوع المسيح، وإله والدته هيلانه لينصره على أعدائه. وبينما هو في المعركة ظهر له الصليب في الجو الصافي، محاطًا بهذه الكتابة بأحرف بارزة من النّور:  "بهذه العلامة تظفر"، واتّكل على إله الصليب، فانتصر على مكسنسيوس، وآمن هو بالمسيح وجنوده. وجعل راية الصليب تخفق في راياته وبنوده. وبعث الكنيسة من ظلمة الدياميس، وامر بهدم معابد الأصنام وشيّد مكانها الكنائس، ومنذ ذلك الحين، أي منذ عام 330، عمّ الاحتفال بعيد الصليب الشرق والغرب.

 

البحث عن الصليب

ظل الصليب مطمورا بفعل اليهود تحت تل من القمامة وذكر المؤرخون أن الامبراطور هوريان الرومانى (117 – 138 م) أقام على هذا التل في عام 135 م هيكلا للزهرة الحامية لمدينة روما.. وفى عام 326م أى عام 42 ش تم الكشف على الصليب المقدس بمعرفة الملكة هيلانة أم الامبراطور قسطنطين الكبير.. التي شجعها ابنها على ذلك فأرسل معها حوالي 3 آلاف جندى، وتفرّقوا في كل الأنحاء واتفقوا أن من يجد الصليب أولاً يشعل نارًا كبيرة في أعلى التلة وهكذا ولدت عادة إضاءة "أبّولة" الصليب في عيده. وفى اورشليم اجتمعت بالقديس مكاريوس أسقف أورشليم وأبدت له رغبتها في ذلك، وبعد جهد كبير أرشدها اليه أحد اليهود الذي كان طاعنا في السن.. فعثرت على 3 صلبان واللوحة التذكارية المكتوب عليها يسوع الناصرى ملك اليهود واستطاعت أن تميز صليب المسيح بعد أن وضعت شخص قد مات وكان اهله في طريقهما ليدفنوة فوضعتة على الصليب الأول والثاني فلم يقم، وأخيرا وضعته على الصليب الثالث فقام لوقته. فأخذت الصليب المقدس ولفته في حرير كثير الثمن ووضعته في خزانة من الفضة في أورشليم بترتيل وتسابيح كثيرة.. وأقامت كنيسة القيامة على مغارة الصليب وأودعته فيها، ولا تزال مغارة الصليب .

 

الصليب بين فارس وأورشليم

بقي عود الصليب في كنيسة القيامة حتى 4 أيار عام 614 حيث أخذه الفرس بعد احتلالهم أورشليم (القدس) وهدمهم كنيسة القيامة, وفي سنة 629 انتصر الامبراطور هرقليوس على كسرى ملك فارس وأعاد الصليب إلى أورشليم.

ويذكر التقليد أن الامبراطور حمل على كتفه العود الكريم وسار به في حفاوة إلى الجلجثة وكان يرتدي أفخر ما يلبس الملوك من ثياب والذهب والحجارة الكريمة في بريق ساطع, إلا أنه عندما بلغ باب الكنيسة والصليب على كتفه أحس قوة تصده عن الدخول فوقف البطريرك زكريا وقال للملك :" حذار أيها الامبراطور إن هذه الملابس اللامعة وما تشير إليه من مجد وعظمة, تبعدك عن فقر المسيح يسوع ومذلة الصليب "، ففي الحال خلع الامبراطور ملابسه الفاخرة وارتدى ملابس حقيرة وتابع مسيره حافي القدمين حتى الجلجثة حيث رفع عود الصليب المكرم فسجد المؤمنون إلى الأرض وهو يرنمون: "لصليبك يا نسجد, ولقيامتك المقدسة نمجد".

 

الصليب في القرن السابع

في القرن السابع نقل جزء من الصليب إلى روما وقد أمر بعرضه في كنيسة المخلص ليكون موضع إكرام للمؤمنين, البابا الشرقي سرجيوس الأول (687 - 701).

 

الاب عمار بهنام باهينا من السويد كتب عن المنايبة يقول: تحتفل الكنيسة المقدسة   في الرابع عشر من شهر ايلول    من كل عام بعيد ارتفاع الصليب المقدس، ويرتبط هذا العيد بحادثة صلب وموت السيد المسيح على جبل الجلجلة . وبعد هذه الحادثة اختفت آثار الصليب الذي صُلِبَ عليه السيد المسيح، لأن الرومان رموه في الحفرة الكبيرة التي كانت قريبة من جبل الجلجلة، وأقاموا مكانه معبداً للإله الروماني فينوس ليمنعوا المسيحيين الأوائل من زيارة المكان وتكريم الصليب المقدس. واستمر الوضع هكذا إلى سنة  326 م عندما حضرت القديسة هيلانه الأمبراطورة والدة الأمبراطور قسطنطين الكبير إلى اورشليم للبحث عن خشبة الصليب المقدس.

وعندما سألت عن الأمر أخبروها بأن الصليب مدفون بالقرب من معبد فينوس الذي أقامه الأمبراطور أدريانوس، فأمرت بحفر المكان فعثرت على ثلاثة صلبان، ولما لم تعرف أيها صليب السيد المسيح الحقيقي، اقترح البطريرك مكاريوس أن توضع واحداً تلو الآخر على جثة أحد الموتى الذين كانت تمر جنازتهم بالمكان في ذلك الوقت، فعندما وضع الصليب الأول والثاني لم يحدث شيء، وعندما وضع الصليب الثالث، عادت للميت الحياة بأعجوبة باهرة، وبعد ذلك وضعوا الصليب على إمراة مريضة فشفيت في الحال، عندئذ رفع البطريرك مكاريوس خشبة الصليب ليراها جميع الحاضرين فرتلوا "يا رب ارحم" ودموع الفرح تنهمر من عيونهم، فرفعت القديسة هيلانه الصليب المقدس على جبل الجلجلة وبنت فوقه الكنيسة المعروفة إلى يومنا هذا كنيسة القيامة. ولدى زيارتنا لها نجد في أسفلها كنيسة صغير مخصصة للقديسة هيلانه يعلو هيكلها تمثال برونزي لها وهي تحمل وتعانق الصليب المقدس.

في سنة 614 م  كان كسرى ملك الفرس قد اجتاح اورشليم  وأسر الوف المسيحيين وفي مقدمتهم البطريرك زكريا، ونقلهم إلى بلاده، وأخذ ذخيرة عود الصليب الكريم غنيمة، وبقيت في حوزته اربع عشرة سنة. 

 عام 628 م استطاع  الأمبراطور البيزنطي هيرقل الانتصارعلى الفرس، كانت اهم شروطه اطلاق المسيحيين وارجاع ذخيرة خشبة الصليب المقدس   . وكان كسرى الملك قد مات وملك مكانه ابنه سيراوس فقبل هذا بالشروط واطلق الأسرى سالمين مع البطريرك زكريا بعد أن قضوا في الأسر 14 سنة، وسلّم ذخيرة عود الصليب إلى الأمبراطور هرقل وكان ذلك سنة 628. فأتى بها هرقل إلى القسطنطينية التي خرجت بكل ما فيها الى استقباله بالمصابيح وتراتيل النصر والإبتهاج.

وبعد مرور سنة جاء بها الإمبراطور هرقل إلى أورشليم ليركز عود الصليب في موضعه على جبل الجلجلة. فقام لملاقاته الشعب وعلى رأسهم البطريرك زكريا، فاستقبلوه بأبهى مظاهر الفرح والبهجة بالمشاعل والترانيم وساروا حتى طريق الجلجلة. وهناك توقف الملك بغتة بقوة خفية وما أمكنه أن يخطو خطوة واحدة، فتقدم البطريرك وقال للملك: "إن السيد المسيح مشى هذه الطريق حاملاً صليبه، مكللاً بالشوك، لابساً ثوب السخرية والهوان، وأنت لابس أثوابك الأرجوانية وعلى رأسك التاج المرصع بالجواهر، فعليك أن تشابه المسيح بتواضعه وفقره". فأصغى الملك إلى كلام البطريرك، وارتدى ثوباً حقيراً ومشى مكشوف الرأس، حافي القدمين، فوصل إلى الجلجلة، حيث ركز الصليب في الموضع الذي كان فيه قبلاً.  

ومنذ ذلك الوقت ونحن نحتفل في الرابع عشر من أيلول بعيد وجدان الصليب المقدس على يد القديسة هيلانه واسترجاع خشبة الصليب المقدس من بلاد فارس على يد الأمبراطور هيرقل. ومن العادات الشعبية المقترنة بهذين العيدين نذكر: أولاً اشعال النار على قمم الجبال أو اسطح الكنائس والمنازل أو في الساحات العامة، وترجع هذه العادة إلى النار التي أمرت القديسة هيلانه بأشعالها من قمة جبل إلى أخرى لكي توصل خبر وجدانها للصليب لابنها الأمبراطور قسطنطين في القسطنطينية، إذ كانت النار هي وسيلة التواصل السريع في ذلك الزمان عندما كانت وسائل المواصلات والاتصالات بدائية وبطيئة.  

وبعد الروايات التاريخية والتقاليد الشعبية التي تدور حول عيد ارتفاع الصليب، يجدر بنا استخلاص العبر الروحية والحياتية:

 نقرأ في سفر التكوين عن   خطيئة آدم وحواء اللذين أكلا من شجرة "معرفة الخير والشر" المزروعة في وسط الجنة التي نهاهما الله من أكلها، فسقطت البشرية جمعاء فيما نسمية "بالخطيئة الأصلية" بسبب عصيان أبوينا الأولين، أما السيد المسيح فقد استخدم شجرة أخرى، وهي عود الصليب، لكي يكفر بطاعته عن العصيان ويعوض بعود الصليب ومرارة الألم عن الاثم الذي ارتكب بأكل تلك الثمرة المحرمة.

الحيات النارية التي كانت تلسع في البرية الشعب اليهودي الذي عصى الله بعصيانه أوامر موسى، فرفع موسى حية نحاسية في البرية وكل لديغ كان ينظر إليها يشفى من اللدغة ولا يموت، وقد أشار السيد المسيح إلى ذلك بقوله:  "كما رفع موسى الحية في البرية كذلك يجب أن يرفع ابن الإنسان، لتكون به الحياة الأبدية لكل من يؤمن".

إن يسوع المسيح اختار الصليب الذي كان يعتبر أداة خزي وعار وعقاب للصوص والمجرمين ، وحوله بذلك إلى أداة فخر وعز وخلاص للبشرية:  "وإنا إذا ارتفعت عن الأرض جذبت إليَّ الناس أجمعين".

 إن السيد المسيح قد غلب العالم ليس بقوة السلاح ولكن بصليب آلامه وموته، فأصبح الصليب مفتاح الملكوت السماوي للبشر. وينطبق هذا أيضاً على كل الغزاة ، إن قوة الحديد والسلاح محدودة لا تحقق نصراً بل تزرع دماء ودماراً، وأن الغلبة هي لقوة الحقيقة والمحبة والعدالة.

أما صلاتنا في هذا العيد المجيد:  "لنسجد للصليب الذي فيه خلاصنا ومع اللص اليميني نهتف اذكرنا في ملكوتك ".

 

عيد إرتفاع الصليب

عن موقع شريعة المحبة

إن احتفالنا بعيد ارتفاع الصليب المقدّس في ١٤ أيلول هو استمراريّة لتقليد كنسيّ طويل جدّاً. في ١٤ أيلول من سنة ٣٣٥ اجتمع حشد غفير من المؤمنين والحجّاج والرهبان والأساقفة في أورشليم، وقد جاؤوا من جميع أنحاء الأمبراطوريّة الرومانيّة، ليحتفلوا بتكريس كنيسة عظيمة أمر الأمبراطور قسطنطين ببنائها حيث صلب السيّد المسيح ودُفن. وقد استمرّ الإحتفال بهذه الذكرى في التاريخ عينه في القرون التالية: تروي المورّخة إيجيريا في مذكّرات رحلات حجّها الى الأراضي المقدّسة أن أكثر من خمسين أسقفاً كانون يجتمعون مع آلاف الحجّاج كلّ سنة للإحتفال لمدّة ثمانية أيّام بهذه الذكرى.

كان الحجّاج والمومنون الأورشليميّون يحتفلون في تلك الفترة باكتشاف خشبة عود الصليب، وكانوا يقومون برتبع رفع الصليب المقدّس (من هنا اسم العيد حتّى يومنا هذا)، وبما أن مكان الصلب كان يعتبر محور الكون كلّه، لأن منه جاء الخلاص للعالم بأسره، جرت العادة أن يبارك بطريرك أورشليم بالصليب أربعة إتّجاهات العالم، وهو ما تقوم به جميع الكنائس اليوم في رتبة عيد الصليب. وكان الحجّاج يحملون معهم قوارير يملأونها زيتاً، يباركونها بلمسها عود الصليب ويحملونها الى بيوتهم للتبرّك، فصارت عادة تبريك الزّيت، ومع مرّ الأيام استبدل تبريك الزيت بتبريك المياه، التي تقوم بها العديد من الكنائس، ومن بينها الكنيسة المارونيّة، في رتبة قدّاس عيد ارتفاع الصليب المقدّس، وصارت روما تحتفل بالعيد أيضاً حين كانت الكنيسة تحت رعاية البابا سرجيوس، قبل العام ٧٠٠.

اعتمدت كنيسة القسطنطينيّة هذا العيد في العام ٦١٢، وتمّ نقل أجزاء من الصليب المقدّس اليها والى مراكز الكنائس الأخرى. في سنة ٦١٤، إحتلّ الفرس أورشليم، ودمّروها وأشعلوا فيها النّار، ووضعوا يدهم على خشبة الصليب، ولكن الإمبراطور هرقل قام بمواجهتهم واسترجع المدينة المقدّسة من بين أيديهم وأجبرهم على إعادة الصليب المقدّس، الّذي أعيد وضعه في كنيسة القبر المقدّس في ٢١ آذار من سنة ٦٣٠.

إنّما عيد الصليب الّذي نحتفل به نحن أبناء اليوم ليس هو مجرّد تكرار لتقليد تاريخيّ كنسيّ عريق وراسخ في القدم فحسب، بل هو مشاركتنا نحن المؤمنين اليوم بالإيمان الواحد الّذي يجمعنا بالإخوة الّذين سبقونا وأوصلوا الينا معني إكرام الصليب الأقدس. وهو من ناحية أخرى عيش لمعنى الصليب في حياتنا، ليس الصليب علامة الألم والعذاب والموت، إنّما علامة الإنتصار الّذي أعطانا إيّاه المسيح بانتصاره هو على الموت، وبانتصار الرجاء على اليأس.

"ما من حبّ أعظم من أن يهب الإنسان نفسه في سبيل أحبّائه"، عبارة قالها الرّب وطبّقها من أجلنا حبّاً بنا ورغبة بخلاصنا، هي عمل حبّ وفعل تضحية ولا أعظم، حقّقها الرّب مجّاناً لأنّه يحبّنا. الصليب بالنسبة لنا هو ضمانة حبّ الله المجّانيّ لكلّ واحد منّا، ولا بدّ أن يصير علامة حبّنا للآخرين وخدمتنا لهم وتضحيتنا من أجلهم. إن لم نضع منطق التضحية والخدمة وبذل الذات موضع التطبيق، يصبح الصليب عقيماً في حياتنا، لا يعطي ثمار الخلاص لإخوتنا الّذين هم في العالم.

الصليب هو حبّ الله الآب لنا، آب تألّم هو أيضاً من أجلنا، إذ بذل ابنه الوحيد حبّاً بنا. بالصليب نختبر بنّوتنا للآب السماوي ونوقن أنّه هو أبونا. علامة الصليب التي نكرّمها في كنائسنا، ونضعها فوق أبوابنا وفي صدر بيوتنا وعلى صدرنا فوق قلبنا، هي العلامة التي أعلم من خلالها أنّني ابن ملك سماويّ أحبّني، أراد أن يجعلني إبناً له بالتبنّي، وأن يشركني في ملكوت حبّه الأبديّ. هو رمز الحبّ الّذي يضحيّ، يبذل أثمن ما يملك في سبيل الحبيب: الصليب هو علامة حبّ الآب لنا، الّذي لم يبخل على العالم بابنه في سبيل الخلاص. هو علامة التضحية التي يتعلّم من خلالها كلّ والد ووالدة حسّ التضحية ومعنى أن يكرّسا وجودهما وحياتهما في سبيل أولادهم. في منطق أبينا السماويّ تجد التربية المسيحيّة معناها وغايتها، منه نتعلّم أن تكون حياتنا كلّها مكرّسة لتربية أولادنا، لا من الناحية الجسديّج والثقافيّة فقط، بل من الناحية الروحيّة بالمرتبة الأولى. كلّ عطيّة لنا هي من الله، الّذي لم يكتفي بأن يعطينا الغذاء والمعرفة، بل أعطانا بالمقام الأوّل أن نحيا بعدنا الرّوحي، فلا يكون وجودنا مقتصراً على وجود ماديّ جسديّ مائت، بل أعطانا أن نعي اختلافنا عن المخلوقات الأخرى من ناحية كوننا مخلوقين على صورة الله ومثاله. من خلال الوحي والأنبياء والمرسلين أفهمنا الله قيمتنا، ورغم خطيئتنا بقي وفيّاً، الى أن أرسل ابنه الوحيد متجسّداً، ليقاسي الموت من أجل خلاصنا، ،هكذا بقي لنا الصليب علامة حبّ الآب لنا، وضمانة قيمة وجودنا، لا ككائنات حيوانيّة، بل كمخلوق يأخذ ملء كرامته من حقيقة وجوده كابن لله، مخلوق على صورته ومُفتدى بدم الإبن. لقد صار الصليب علامة هذه القيمة، وتعبيراً عن حبّ الله لنا. فكيف نربّى نحن الّذين آمنوا بالصليب أولادنا؟ هل نقدّم لهم منطق الآب السماويّ؟ هل نجعلهم يعون قيمتهم كأبناء لله أم أنّهم يكبرون واهمين أن الحياة هي اللّهو واللّذة والمادّة؟ هل نضع وجودنا في خدمتهم كرسالة وكمسؤوليّة من الله، كما أن الله وضع كلمته في خدمة خلاصنا وأحبّنا فلم يبخل علينا بابنه؟ هل نعلّمهم قيمة الصليب كفعل محبّة وبذل الذّات في سبيل المحتاج والمتألّم أم نربّيهم على الفرديّة والأنانيّة وعدم الإكتراث بالآخر؟ هب نحيا الصليب في حياته أم نجعله مجرّد أداة زينة في أعناقنا؟ هل نجعل الصليب يثمر خلاصاً للإنسانيّة في أيّامنا وبواسطتنا، أم صار مجرّد لحظة تاريخيّة تذكّرنا بحدث قديم إنتهى وعبر؟

والصليب هو علامة حبّ الإبن الّذي وهبنا الخلاص.

 

عيد ارتفاع الصليب

المطران جورج خضر

حادثتان أوجدتا عيد ارتفاع الصليب. أولاها في القرن الرابع حيث وجدت القديسة هيلانة أم قسطنطين امبراطور الروم صليب المخلّص الذي كان مغمورا في التراب، والحادثة الثانية ان أعاد الأمبراطور هرقل ذلك الصليب من بلاد الفرس الذين كانوا قد أخذوه من أورشليم. فرح المسيحيون بالحادثتين وفهموهما رحمة من الله لهم. لن أعلّق على هذين الكشفين لأني أودّ تجاوز الواقعين في محسوسيتهما لولوج الجوهر.

تبديدا لكل لبس وددت أن أقول ان الصليب لا أهميّة له إلاّ بالمصلوب. كل الديانات ذات رموز وخطاب رموزي. لا يهمّني اذا كانت ذخيرة الصليب التي تضعها ضمن صليب فضيّ في عنقك جاءت حقا من صليب يسوع. لا أحد يمكن ان يثبت ذلك ولكن يجب ان يهمّك ان كنت مسيحيا ان تعترف بأن موت الناصري وانبعاثه هما كل المسيحيّة. وان كل عبادة او طقس او عقيدة هي من باب تعزيز ذلك الموت وتلك القيامة.

هذه قاعدتنا وهذا مدانا ولهذا نشهد. واذا تكلّمت خارج هذا الإيمان باحثاً تاريخياً لا أحد اذا اتخذ منهج التاريخ المحض يستطيع ان يُخرج الأناجيل من باب التوثيق. لستَ مضطرًا ان تؤمن بالإنجيل لتثبت ان الإنسان يسوع الناصري عرف هذه الميتة. الأناجيل صحف ذلك الزمان والإنجيليون الأربعة ثلاثة منهم شهود وواحد تقصّى شهادات الشهود. انت مستقلاً عن معنى الصلب أفداء هو أم خلاص لا مهرب لك من ان تقول ان المسمى يسوع الناصري او الجليلي ألقي القبض عليه وحاكمه اليهود والرومان وحمّله بيلاطس البنطي الوالي خشبة ليُصلب عليها فرُفع على تلّة الجلجلة مسمّرًا ومطعونًا جنبه بحربة وتأكد الوالي هذا الموت وقبر الرجل.

حادثة الصلب من الإيمان بسبب معانيها. يبدأ ايمانك الحقيقي من قبول المعنى.

معنى الموت ليسوع الناصري انه ارتضى ان يحمل خطيئة العالم، ان يصير هو خطيئة لكي يحيا من يؤمن به بلا خطيئة، لينبعث الإنسان كلّ يوم من غضب الله عليه ليمكث في الرضاء الإلهي.

خشبة من خشبتين. الأولى عمودية والثانية أفقيّة. أما العمودية التي طرح عليها المسيح فتدل على ان السيّد ممدود من الأرض الى السماء وممدودون معه أحباؤه بالاتجاه نفسه. اما الأفقيّة التي كانت ذراعا المعلّم ممدودتين عليها فتدلّ على ان يسوع يضمّ بهما او فيهما كل المسكونة اليه دائما ولأنه يرتفع دائما. سمينا هذا العيد ارتفاع الصليب. ما هذا الا كلاما رمزيا. الحق اننا في ارتفاع المصلوب من اجل حياة العالم.

جاء في الكتب المقدسة عندنا عبارات من شأنها ان تضلّل. مأخوذة من العهد القديم ولكن يجب ان تُقرأ على خلفيّة العهد الجديد. كلمة كفّارة التي يعني ظاهرها ان يسوع مات بدلا عنا يمكن ان يتعثّر القارئ بها فيفهمها بمعنى حقوقي معروف عندنا في قانون الجزاء. هذا ليس له أساس في العقيدة. وقد قيل في الغرب في القرون الوسطى ان الخطيئة أثارت غضب الله وهذا الغضب لا يزول الا اذا أزاله إله ليتمّ التساوي بين الغضب والتكفير عنه. هذا ربما تعلق به حتى اليوم بعض المتشنجين في ايمانهم او من يحبون انهاء الثأر بالفدية على ما هو مألوف في مناطق قبليّة. هذا ايضًا لا أساس له.

وان كنا لا نزال نستخدم كلمة فادٍ فليس لارتباطها بهذا الفكر القانوني لكنا نترجم بها اللفظة اليونانيّة التي تعني المحرر. المسيح يعتقنا من خوف الموت كما ورد في الرسالة الى العبرانيين: "ويُعتق اولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعًا كلّ حياتهم تحت العبوديّة" (15:2).

اذا تغلّبت على مخافة الموت فأنت مقيم في الحياة. كلّ المسيحيّة تقوم على تناقض الموت والحياة وليس فقط الموت الروحي والحياة الروحيّة ولكن على التناقض بين الموت الجسدي والحياة التي تؤتانا من القيامة في اليوم الأخير.

الشيء الوحيد الذي يخشاه الإنسان هو الموت. يخشى حادثة آلة والمرض والغيبوبة. كلّ هذا موت. واذا لم يستطع ان يواجه هذا بصورة حقيقيّة فهو واقع في الخوف ابداً. لا يتعزّى أحد ان قلت له هذا لا بد من حدوثه. الله سيّد على الابد اي انه يقضي على المواتية هنا. كيف تتحرر منها ولو كان لها يوما ما تعبير بيولوجي؟ لا مفر من الموت الا بالمحبوبيّة. يجب ان يحبك إله لتحس بأنك محبوب. لا أحد يعوض الإله مصدرا كاملا لحيويتك. هذا كشفه يسوع الناصري بصورة بليغة بمعنى انه أدخل الحياة التي كان يحملها الى مملكة الموت. فجّر الموت من الداخل. "وطئ الموت بالموت" كما يقول النشيد الفصحي.

وفيما كان المسيح يدخل الحياة الى كل نطاق الموت أدخل معها المحبّة، والحياة هي المحبّة. بهذه وحدها تخرج انت من العدم. ارتضاء يسوع قتله إن هو الا تعبير عمّا جاء في الكتاب: "هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد" (يوحنا 16:3).

بهذا لم يبقَ محل للسؤال لماذا كل هذا التحرك الإلهي، لماذا هذه الاستراتيجيّة الإلهيّة، كل هذه الخضة؟ اما كان ممكنا لله ان يعبّر عن حبه بغير هذه الطريقة؟ طريقة اخرى تأتي من سؤال افتراضي. الأمور صارت هكذا لأن الله حكمته في هذا. حكمته تجلت في ان يتجسّد الكلمة ويتأنسن ليكون لصيقا بالإنسان، ليفهم البشر ان الرب ردم كل هوة كانت بينه وبين بنيه. هل من سبيل أفصح من ان يلازمنا الله في دنيانا، في جسدنا، في اوجاعه، في موتنا، في قبرنا؟

المسيحي يعرف في كل ألم ان مسيحه شريك له ويعرف انه لا يُلقى وحده في التابوت وان شيئا فيه لا يقضي عليه تراب الأرض. انه يعرف انه ليس عبدا نهائيا لوطأة الدنيا. هو يقع في الخطيئة لكنه ناهض الى البر لأنه يحمل في نفسه طاقة الحب. ويستطيع ان يغفر الى ما لا نهاية وان يذوق الفرح في أمراضه والكمال في عاهته ويختبر في القداس "كمال ملكوت السموات والدالة لدى الله لا لمحاكمة ولا لدينونة" لأنه قد انتقل بقيامة المخلّص من الموت الى الحياة.

 

عيد ارتفاع الصليب المقدس

by Fr. Paulus Sati

(النهار- بيروت) راديو الفاتيكان

في الرابع عشر من أيلول سبتمبر، تعيّد الكنائس لارتفاع الصليب. وغني عن القول إن المسيحيين لا يعبدون خشبة الصليب ولا يضعون في الكنائس الصليب إلا إذا صار أيقونة أي رسم عليه المسيح. فكل ذكر للصليب في العبادات يعيدنا إلى الذي مات عليه. لماذا هذا العيد؟ الأعياد المسيحية فئتان: الأعياد الفكرية مثل الميلاد والفصح، والأعياد التي هي تذكارات لحوادث تاريخية يضاف إليها الفكر اللاهوتي.

ما سميناه عيد ارتفاع الصليب يؤرخ لحادثة أولى هي اكتشاف صليب المخلص مطمورا تحت تراب الجلجلة حيث مات واكتشفته القديسة هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين التي بنت كنيسة القيامة وكنيسة المهد. وضع عود الصليب في كنيسة القيامة حتى 4 أيار مايو 614، فسرقه الفرس في تلك الفترة بعد احتلالهم أورشليم (القدس). في عام 628 بعدما انتصر الإمبراطور البيزنطي هرقل على الفرس، أعاده إلى المدينة المقدسة فرفعت الكنيسة هذا العود أمام المؤمنين وابتدأ العيد. وجزّئ الصليب أجزاء صغيرة جدا ووزع على المؤمنين في كل الدنيا بمعنى أنه الآن مجرد ذخائر عند ألوف مؤلفة من المسيحيين.

الجانب الطقوسي لهذا العيد غاية في الجمال في الكنيسة الأرثوذكسية إذ يرفع الكاهن قبيل القداس الصليب فوق رأسه وينزل به الى أرض الكنيسة وذلك خمس مرات وسط ترتيل مطول، وبعد أن يقبل المؤمن الصليب يدفع الكاهن إليه زهرة كانت تحيط بالصليب عندما كان يحمل في الطواف ليؤتى به إلى المائدة التي يتم عليها التكريم.

كل المسيحيين على درجات مختلفة من الأبهة والبهاء الطقوسي يعبرون عن إيمانهم ليس فقط بالكلمات والإنشاد ولكن بالرموز أيضا بحيث ساغ القول إن القداس الشرقي بنوع خاص مسرح ديني فيه أنواع من الفنون المختلفة وسجدات وركعات وحركات كإشارة الصليب على الوجه والصدر، وفي العبادات أيضا ماء وخبز وخمر وزيت وزهور وآكاليل للعرسان وزيت وتراب على الجثمان وثياب تختلف ألوانها حسب المواسم وثياب خاصة بكل رتبة وأيقونات وتصوير جداري لشعور المؤمنين أنهم يمجدون الله في نفوسهم وأجسادهم معا وذلك بسبب إيمانهم بقيامة الأجساد.

هناك ملموسية ضرورية لك معرفتها لتفهم المسيحية كما تجسدت في الألفية الأولى – وكل ما نتممه اليوم قائم وتام في الألفية الأولى. تفهم الناس كما يفهمون هم أنفسهم.

لك أن تقبل موت المسيح ولك ألا تقبله ولن أناقشك. ولكن إن أردت أن تعاشر المسيحيين لك أن تفهم عمق إيمانهم بالمصلوب. لن تفهم ذرة واحدة من إيمانهم وتاليا لا تستطيع أن تودّهم ودا كبيرا ما لم تدرك سرهم أي ما يحركهم في العمق وتبقى حرا بتصديق حادثة الصلب أو عدم تصديقها. كل حرارة الحب في المسيحية أتت إليهم فقط من صلب المخلص. كل صلاتهم وطهارة بعضهم وإنجازاتهم الفكرية في الشرق والغرب، كل أدائهم الشهادة بملايين من الشهداء جيلا بعد جيل، كل تقشف عندهم ونسك، كل غفران، وسلام في النفس ومحبات تُبذل حتى الموت نازلة عليهم من المصلوب. لولاه لكانت المسيحية مذهبا من مذاهب اليهود.

إنجيلهم ليس فيه سوى هذا الحدث كائنا ما كان صوغ الأناجيل أسلوبا ولغة، الأناجيل تبدو بسيطة لكن مضمونها اللاهوتي غاية في التركيب. إنها قائمة على جدلية موت المسيح وقيامته. أي تجليه الثنائي وسيادته على القلوب.

هذا الصلب هو الذي جعل المسيحية إيمانا بشخص يدعى يسوع الناصري وليست أساسا تصديقا بكتب. الناصري لم يكتب حرفا وأتباعه يومنون به لأنه مات ثم قام ودونت الأناجيل بعد موته بضع عشرات من السنين (الإنجيل الرابع بعد السنة التسعين). فقبل نصها كان هذا الايمان الواحد قائما وكانت دماء الشهداء تهدر لا بسبب كتب ولكن بسبب الحب لهذا الشخص.

هذا صار الكاهن العظيم بآلامه واتخذ خطايا البشر على نفسه لكي تزول عنهم بالحياة الجديدة التي يعطيهم إياها بدخوله مملكة الموت ونزوله إلى الجحيم أي إلى قاع اللعنة التي لحقت بمن ماتوا قبله وبعده. ذلك أن “أجرة الخطيئة هي الموت” الذي صار موت ابن الإنسان.

هذه الأوجاع التي تحمّلها هي أوجاع الناس جميعا، هي معاصيهم. أخذها في ذاته لكي ينجيهم منها. “دفنا معه بالمعمودية للموت (أي لنصير إلى موته) حتى كما أقيم المسيح من بين الأموات نسلك نحن أيضا في جدة الحياة”.

ولكن قبل أن تنال الحياة الأبدية، حالتك حالة الإنسان الساقط والمتألم معا. أي أنك أنت أيضا مصلوب ولا تنجو من أي صليب وضع على عاتقك إلا بصليبه هو، فتقوم منذ الحياة التي أنت فيها إلى حياته لتصبح خليقة جديدة.

أنت لا تخترع الألم. هو يأتي من هذا العالم الذي هو تحت الشرير. يقلقك ويوجعك حتى تتساقط قيامة المسيح عليك بالتوبة وهي رجوعك بكل جوارحك إلى وجهه وهذا هو الإيمان الكامل تحياه على الرجاء وفي محبة ليسوع يغدق بها عليك فتصير إليه كائنا فصحيا.

“من أراد ان يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني”، المسيح لا يلقي عليك صليبا. تؤتاه من ظروف وجودك على الأرض. وإن حملته تصير إنسانا سماويا. لذلك كان عيد ارتفاع الصليب مسيرة لك دائمة. كل يوم مثقل وكل يوم ترفع عنك القيامة أثقالك.

من هذا المنظار كان هذا العيد ممتدا فيك كل يوم. هل الصبيان الذين يشعلون النار عشية ذلك اليوم يعرفون أنهم مدعوون ليحملوا بها النور إلى العالم فيصيرون قياميين؟ هل كان ذلك تبيانا لهويتهم؟

ما عيد ارتفاع الصليب إلا قصة حب، أعظم قصة حب في التاريخ لأنها كتبت بالدم. هي زواج المخلص مع الإنسانية جمعاء. حبيبته ليست حصرا طوائف المسيحيين. هي الإنسانية المطهرة من كل أطراف الدنيا. هذه هي جسده أي كيانه المعمد بماء أو المعمّد بالروح. الذين يؤمنون بيسوع يؤمنون بالمحبة والناس كلهم أحباؤهم لأن الناس جميعا يأتون من المسيح بطريقة أو بأخرى وهو حاملهم بدمه الى أبيه وروحه حتى يكون الله الكل في الكل.